حجم الخط:

قصة نوح عليه السلام

الخطبة الأولى:

الحمد لله خلق النفوس فألهمها فجورها وتقواها، وأرشدها إلى هداها، وحذرها من رداها، أحمده سبحانه وأشكره، شكر من عرف نعمه فرعاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رضيت به ربًا وإلهًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أرفع الخلق قدرًا، وأعظمهم جاهًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واعرفوا ما منّ به عليكم من النعم الكثيرة، فلقد أرسل الله لعباده رسلًا يبشروهم وينذروهم ويرشدوهم لأفضل الطرق وأحسن السبل، ولقد جعل الله هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، فأرسل إليها خير رسله، وأنزل عليها أحسن كتبه، وهو القرآن الكريم الذي ننهل منه ونتعلم، أنزله لنا لكي نعتبر ونتذكر ونعرف سنن المرسلين وما حلّ بأقوامهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

ربنا تعالى أكثر من قصص القرآن تثبيتا لقلب النبي، وأمره أن يقص القصص ليتفكر فيها كفار قريش وغيرهم لعلهم يتوبوا إلى ربهم ويعودوا إلى رشدهم، قال تعالى: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]. ولقد أخبر الله نبيه بأنه لم يقصص عليه جميع قصص الأنبياء: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164].

وأول الرسل الذين أرسلهم الله إلى الأرض نبي الله نوح عليه السلام، أرسله الله إلى الأرض بعد أن انتشرت عبادة الأصنام، وحدث التبديل والتحريف في الدين، وانقلب الناس من عبادة الله وحده إلى عبادة الأولياء والطواغيت، وعظمت الضلالة والكفر، علما بأنهم كانوا مسلمين، فعن عكرمة قال: (كان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام).

فبدأ نوح يدعو، واجتهد في دعوة قومه إلى توحيد الله تعالى، ولكنهم كانوا معاندين، يرفضون حتى السماع له، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴿٥﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [نوح:5-6]. ولقي عليه السلام منهم الأذى، وصبر عليهم صبرا عظيما، ولم يلق منهم سوى التكذيب والسخرية، ولبث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين، فلم يستجب لدعوته إلا القليل، بل إن زوجته وابنه لم يؤمنا به، وكانوا يتواصلون جيلا بعد جيل ويتواصون بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولده أوصاه أن لا يؤمن بنوح ما عاش أبدا، فكانت طبائعهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال: ﴿ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27].

ولما طال عليهم الزمن أخبره الله بأنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأمره بأن يصنع الفلك أي: السفينة، فكان قومه يمرون عليه ويسخرون منه؛ كيف يصنع سفينة في البر؟!، قال تعالى: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38].

ثم ازداد طغيانهم وتحديهم لنوح، ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود:32]، عند ذلك أدرك نوح استفحال الشر منهم وما هم عليه من الضلالة والجحود، والتجأ إلى الله وهددهم وأنذرهم، فلما أدرك أنه لن يؤمن منهم أحد دعا عليهم: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، طلب من الله استئصالهم.

وتأملوا في الجانب الآخر عن النبي الذي سماه ربه رؤوفا رحيما محمد، حينما آذاه قومه وأهانوه كما ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسـي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، فقال النبي: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»[1]. الله أكبر! ما أرحمه من نبي! فلقد تمثل القرآن، وكان خلقه القرآن كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

معاشر المسلمين، وبعد أن صنع نوح الفلك وحمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره ربه، قال له ربه بعد ذلك إذا حل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين أن لا يعاوده فيهم أو يراجعه، فإنه لعله تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود:37].

وقال تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [هود:40] ومعنى التنور هنا عند جمهور المفسرين: وجه الأرض. وقد ذكرت قصة نوح في أكثر من تسع سور من القرآن، وبعد أن دعا عليهم قال تعالى: ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ﴿١١﴾ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴿١٢﴾ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿١٣﴾ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴿١٤﴾ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴿١٥﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:11-16].

الله أكبر! السماء أصبحت أبوابا فتحت بماء منهمر شديد، والأرض تفجرت عيونا، فأصبح الوضع رهيبًا مخيفًا. وأهلك الله قوم نوح، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، ولم ينج إلا أصحاب السفينة التي كنت تجري تحت عناية ورعاية المولى تعالى.

نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة..

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما قص الله عليكم، فإنما قص الله علينا هذه القصص لنعتبر ونحذر من الغفلة والبعد عن الله والإصرار على المعاصي التي وقعوا فيها، فيصيبنا ما أصابهم.

فهكذا دمر الله كل الكفرة الذين على وجه الأرض من قوم نوح وغيرهم: قال تعالى: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44] أي: لما فرغ من أهل الأرض وأبادهم ولم يبق بها أحد ممن عبد غير الله عز وجل أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي: تمسك عن المطر، ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44] أي: نقص عما كان، ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة:210] أي: وقع بهم ما قدره الله وسبق في علمه من الإغراق والتدمير.

﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [هود:48]، هذه أوامر لنوح عليه السلام لما نضب الماء على وجه الأرض وأمكن السعي فيها أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة، أي: اهبط بسلام مبارك عليك وعلى أمم سوف يولدون من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا سوى نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر الأجناس من بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم: سام وحام ويافث..

أحبتي في الله: هذه من القصص التي استضاء بها النبي وتعزى بها، فكانت له هداية وتثبيتا وتذكيرا، ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، فكل القرآن لنا عبرة وتبصرة كما قال تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2].

إن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحدًا، وإن الأمم السابقة ما أهلكها إلا عتوها وطغيانها، واتباع شهواتها وأهوائها، فهلا اعتبرنا؟ هلا اتعظنا وتذكرنا؟ ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19].

إن المتأمل في سير الأقوام والشعوب والمجتمعات والأفراد، يدرك أنه ما نزل بلاء على الفرد أو الجماعة إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، فتوبوا إلى الله، فقد تهلك الجماعة بالذنوب إذا كثر الخبث، تواصوا بالحق والصبر والمرحمة، وتعاونوا على البر والتقوى، وأصلحوا قلوبكم، وزكُّوا نفوسكم، فقد أفلح من تزكى.

اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها..

صاحب هذه الخطبة

الشيخ / عبد الرحمن القايدي

شاركنا تقيمك لجودة المحتوى
أضف ملاحظة